دعوني ابدأ بقصة قصيرة، قصة ليس من وحي الخيال وإنما رواية حقيقة حدثت مع احد أباء الكنيسة القديس اوغسطينوس، فكان هذا القديس مثلكم تماما، يحيره السؤال نفسه، كيف يكون الأب والابن والروح القدس اله واحدا، كان يتمشى على شاطئ أحدا لبحار ويفكر بقضية الثالوث، فالتقى بطفل كان في الحقيقة ملاكا أرسله الله، كان الطفل يحاول نقل جميع مياه البحر لحفرة صغيرة حفرها في رمال الشاطئ، فالتفت إليه القديس وقال له بأن حفرته صغيرة ومياه البحر كثيرة جدا، ولا يمكن لهذه الحفرة الصغيرة أن تتسع لتلك المياه كلها، فأجابه الطفل المرسل من الله، وأنت كذلك لا تستطيع فهم قدرة الله الكبيرة واللامتناهية بعقلك المحدود هذا.
فقدرة الله تفوق حد إدراكنا البشري، حقيقة لا بد من الاعتراف بها، فالكثير من الأمور يقف الإنسان بعقله عاجزا عن فهمها، ولا تجيبه عليها أيضا كل الكتب والديانات، فمن أين جاء الله، وكيف خلق العالم، وكيف يتواجد بكل مكانا بيننا، كلها أمور يعجز الإنسان عن فهمها، لان العقل المخلوق باختصار يعجز عن فهم قدرة الخالق ألا حدود لها. ولكن لا يعني ذلك بتاتا أن نؤمن بشكل أعمى، فالإنجيل أعلنها لنا بعهديه القديم والجديد بأن الله واحد لا سواه، وأعطانا الله أيضا أمثلة وشواهد على الثالوث بعدة أمور حولنا نعيش بها، حتى نتمكن من فهم وإدراك مسألة الثالوث المقدس.
إذا نظرنا للعهد القديم، فانه يمتلئ بالآيات التي توحد الله ومنها "أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي" (إشعياء 44: 6، 8) وفي اشعياء أيضا "قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلَهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ" (إشعياء 43: 10-11). أما عن العهد الجديد فيكاد يفيض من كثرة الآيات التي تتكلم عن وحدانية الله، ولا يمر سفر دون التأكيد على عبادة الله الأحد، "فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (مرقس 12: 29؛ متى 4: 10)؛ وذكر باختصار "اللهَ وَاحِدٌ" (رومية 3: 30؛ تِيمُوثَاوُسَ الأُولَى 2: 5).
أما مسألة الثالوث المقدس فظهرت وذكرت أيضا في الكتاب المقدس، وبعدة أماكن وأحداث مختلفة، ومنها وأهمها معمودية يسوع المسيح على يد يوحنا المعمدان، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ بِكَ سُرِرْتُ!»" (لوقا 3: 22) فكان المسيح الابن يتعمد أما الروح القدس فظهرت على هيئة حمامة، أم الأب فسمعنا صوته من السماء، وكذلك اوصى المسيح تلاميذه قائلا "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28: 19).
فإذا يعلمنا الإنجيل المقدس أن الله واحدا لا سواه، ولكنه يتخذ ثلاثة اقانيم أو صور مختلفة وهي الأب والابن والروح القدس، ولفهم هذه المعادلة بشكل مبسط، يكتفي أن ننظر لأنفسنا أو ننظر لما حولنا !! أنظر عزيزي القارئ لنفسك، الم يكونك الله من جسد وروح وعقل، فهل أصبحت ثلاثة بذلك أم بقيت إنسان واحد ؟ ألا تتكون الشجرة من جذور وأوراق وأغصان ؟ فهل أصبحت ثلاثة أشجار بذلك أم بقيت شجرة واحدة ؟ هل الأوراق نفسها الأغصان ؟ لا ولا الأغصان نفسها الجذور ولا الجذور هي نفسها الأوراق، ولكنهم بالنهاية شجرة واحدة. والشمس كذلك جسم ونور وحرارة وبقيت بالنهاية شمس واحدة ! هكذا إذا ففي الكون المخلوق نرى شواهد تبرز لنا الثالوث.
الثالوث المقدس في الحقيقة ليس ثلاث آلهة اتحدوا فأصبحوا إلها واحدا، على العكس تماما هو اله واحد يتميز في ثلاثة صور مختلفة، فالجوهر الإلهي واحد، والثالوث لا يعمل بشكل مستقل لان الإرادة والعمل واحد، فكل شخص الهي في الثالوث المقدس يحتوي على الآخرين، ولا تمتلك كل صورة ثلث الالوهية بل الالوهية كاملة، وفي الوقت نفسه يبقى كل شخص في الثالوث متميزا شخصيا.
فإذا حاولت عزيزي القارئ أن تفهم الثالوث رياضيا فانك لن تنجح، فالرياضيات البشرية لا تشمل الله، فالله أكبر من كل شيء، وفي نفس الوقت قادر على كل شيء، وفي الحقيقة لا يتركنا ضعفاء دون فهم بل يعطنا من خلائقه الدلائل والشواهد الكافية لندرك سر عظمته.