لتبسيط الرد على هذا السؤال الصعب، سأورد الرد على عدة نقاط:
أولا: إن دعوة الله لشعب إسرائيل الدخول لأرض كنعان، كان سببها إثم وخطايا شعوب الأرض، وليس لأجل بر شعب إسرائيل، كما أكد الله لشعب إسرائيل: "5 لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالَةِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَلِكَيْ يَفِيَ بِالْكَلاَمِ الَّذِي أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَيْهِ لآبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ" تثنية 9. فالآية توضح أنه ليس لأن شعب إسرائيل أفضل من الكنعانيين لذلك الله أدخلهم الأرض؛ بل لأجل حلول الوقت لإدانة الكنعانيين على خطايا عبادة الأوثان، والتي تشمل 9 ممارسات رجسة مدرجة في سفر التثنية 18: 10- 14، منها تقديم أولادهم كذبائح للآلهة! فواضح من النصوص، أن الله ليس ضد الشعوب في أرض كنعان، لكن أتت الساعة لدينونتهم. وأتت في إطار المرحلة الثالثة لدينونة الله على شعوب المنطقة (الأولى كانت دينونة الله لأرض مصر وبيت فرعون؛ الثانية كانت دينونة الله لنفس شعب إسرائيل في البرية وإفناء جيل كامل هناك؛ والثالثة كانت دينونة الله لشعوب أرض كنعان الذي نتكلم عنه). والله تنبأ عن دينونتهم لعبده إبراهيم، قبل أكثر من 600 عام من حدوثها؛ حيث قال له أن شعبه سوف لا يُعطى أرض كنعان على وقت إبراهيم؛ لأن ذنب شعب الأرض، لم يصل إلى ذروته بعد! "16 وَفِي الْجِيلِ الرَّابعِ يَرْجِعُونَ (أي شعب إسرائيل) إِلَى ههُنَا (أرض كنعان)، لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلاً»." تكوين 15. تصور أن الله صبر على شعوب أرض كنعان أكثر من 600 عام لكي يتوبوا، ولم يتوبوا!! يا له من إله رحيم طويل الروح وكثير الرحمة!
ثانيًا: بناء على النقطة السابقة، نرى أن دعوة الله لشعب إسرائيل لم تكن آلية فتح أراضٍ وامتداد وتوسع بلا حدود؛ بل كانت دعوة لدخول أرض محددة؛ وذلك بنصوص كتابية كثير جدًا، منها:
"2 أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ دَاخِلُونَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ... (إلى نهاية عدد 12، نرى وصف للحدود بأقصى درجات الدقة)" سفر العدد 34. وكانت دعوة لطرد شعوب محددة: "10 ثُمَّ قَالَ يَشُوعُ: «بِهذَا تَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ الْحَيَّ فِي وَسَطِكُمْ، وَطَرْدًا يَطْرُدُ مِنْ أَمَامِكُمُ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ" يشوع 3. أيضًا لم يكن هناك تحديد للأرض وشعوبها فقط، بل كان هناك نهي تام واضح من الله، عن أخذ أي أرضي إضافية عن الأرض التي حددها الرب!! "4 .. أَنْتُمْ مَارُّونَ بِتُخُمِ إخْوَتِكُمْ بَنِي عِيسُو السَّاكِنِينَ فِي سَعِيرَ ... 5 لا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ. لأَنِّي لا أُعْطِيكُمْ مِنْ أرضِهِمْ وَلا وَطْأَةَ قَدَمٍ .. 9 «فَقَال لِي الرَّبُّ: لا تُعَادِ مُوآبَ وَلا تُثِرْ عَليْهِمْ حَرباً لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرضِهِمْ مِيراثاً... 19 فَمَتَى قَربْتَ إلى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ (عمان اليوم) لا تُعَادِهِمْ وَلا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثاً..." تثنية 2.
ثالثًا: الله بين لجميع الشعوب أنه على رأس العملية التأديبية لشعوب أرض كنعان بسبب عبادتهم للأوثان ورجاساتها (راجع تثنية 18: 10- 14)، وذلك بالمعجزات. فشق مياه نهر الأردن، أمام جميع الشعوب، وعبر بني إسرائيل على اليابسة في وسطه؛ وبرهن ذلك أمام جميع الشعب أنه على رأس العملية. فلم يأتي يشوع ويدعي أن الله أمره أن يقاتل شعوب كنعان دون أي دليل واضح وضوح الشمس لشعب إسرائيل ولباقي شعوب أرض كنعان؛ كما أكد شعوب الأرض ذاتهم على هذا: "1 وَعِنْدَمَا سَمِعَ جَمِيعُ مُلُوكِ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ غَرْبًا، وَجَمِيعُ مُلُوكِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ عَلَى الْبَحْرِ، أَنَّ الرَّبَّ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ الأُرْدُنِّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى عَبَرْنَا، ذَابَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِمْ رُوحٌ بَعْدُ مِنْ جَرَّاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ" يشوع 5. فلم يكن هناك أي أدنى شك في أن الله هو القائد الذي يقود الشعب؛ ولا يسير الشعب على هواه. لذلك لم يكن دخول شعب إسرائيل للأرض لنشر دين؛ فالله ليس بفاشل والعياذ بالله ليفعل هذا! فهو لا يحتاج لذراع البشر لنشر شريعته وإظهار ذاته ومجده. فالشعوب عرفته وآمنت به، لأنهم سمعوا عن أعماله ومعجزاته العظمية؛ كما عبرت راحاب وقالت: "9 وَقَالَتْ: «عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ الأَرْضَ، وَأَنَّ رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا، وَأَنَّ جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ ذابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ، 10 لأَنَّنَا
قَدْ سَمِعْنَا كَيْفَ يَبَّسَ الرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ قُدَّامَكُمْ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ 11 سَمِعْنَا فَذَابَتْ قُلُوبُنَا وَلَمْ تَبْقَ بَعْدُ رُوحٌ فِي إِنْسَانٍ بِسَبَبِكُمْ، <<<لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ" يشوع 2.
رابعًا: إلى الآن لم يُجَب على أهم سؤال: كيف يسمح الله بقتل النساء والأطفال الأبرياء؟؟ عادة يركز النقاد انتقادهم على فترة يشوع ودخوله لأرض كنعان. فلا ينتقدون مثلا ضرب الله لمصر بعشر ضربات منهم قتل كل بكر من بيوت المصريين! لماذا؟؟ لأنه واضح أن الله من فعلها وليس بشر. فتظل القضية إذا من جهة دخول شعب إسرائيل لأرض كنعان، ما الذي يبرهن أن الله فعلا ورائها؛ وهو القائد لها؟ 1) كما أكدت النقطة الثالثة، لقد تأكد وتبرهن لشعب إسرائيل ولجميع الشعوب المجاورة، بأن الله هو القائد لهذه العملية بذاته من معجزاته الصارخة. وأيضًا الله خالق البشر، هو الوحيد الذي له الحق في وهب الحياة للبشر، وله الحق بأن يميت البشر؛ لأنه الله خالقهم! "10 الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ" أيوب 12. 2) أيضًا نرى نزاهة وعدالة الله، كيف يستخدم نفس المعايير التي دان بها شعوب الكنعانيين، ليدين بها شعبه عندما يُخطئ!! فعندما أخطأ شعب إسرائيل، الله حاسبهم وأدانهم بنفس المعايير وأحطهم أمام جميع الشعوب. فلم ينصرهم ظالمين ومظلومين كما تروج ديانات أخرى! لذلك أوصى موسى بأن ينفذ نفس القضاء تمامًا بأي مدينة من شعب إسرائيل تعبد الأوثان: "13 قَدْ خَرَجَ أُنَاسٌ بَنُو لَئِيمٍ مِنْ وَسَطِكَ (أي يهود) وَطَوَّحُوا سُكَّانَ مَدِينَتِهِمْ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفُوهَا ... 15 فَضَرْبًا تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ 16 تَجْمَعُ كُلَّ أَمْتِعَتِهَا إِلَى وَسَطِ سَاحَتِهَا، وَتُحْرِقُ بِالنَّارِ الْمَدِينَةَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهَا كَامِلَةً لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فَتَكُونُ تَلاًّ إِلَى الأَبَدِ لاَ تُبْنَى بَعْدُ." تثنية 13. لذلك حذر الله شعب إسرائيل بتحذير واضح وصريح، قائلا:
"19 وَإِنْ نَسِيتَ الرَّبَّ إِلهَكَ وَذَهَبْتَ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدْتَهَا وَسَجَدْتَ لهَا أُشْهِدُ عَليْكُمُ اليَوْمَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ لا مَحَالةَ. 20 <<<كَالشُّعُوبِ الذِينَ يُبِيدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكُمْ كَذَلِكَ تَبِيدُونَ>>> لأَجْلِ أَنَّكُمْ لمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ." تثنية 8. هذا إله قدوس فعلا ليس عنده معايير مزدوجة؛ عدالته متساوية لجميع الشعوب، يهودًا ووثنيين!! وهذا يبرهن أن وحيه صادق، لأنه ليس فيه تمييز أو محاباه؛ ما يطبقه على الوثني، يطبقه على شعبه، بدون أي تحيُّز ومعايير مزدوجة كباقي الديانات المبتدعة!!
خامسًا: أيضًا الكتاب يشدد بشكل لا غبار عليه، اختيار الله المؤكد للأنبياء والقادة. فالله اختار موسى بمعجزات لم يراها التاريخ البشري كله (تثنية 34: 10-12)!! كذلك أكد الله على اختيار يشوع خلفًا لموسى، عن طريق موسى ذاته (تثنية 34: 9). وأيضًا برهن الله اختياره ليشوع بالمعجزات التي مستحيل أن يخطئ بها حتى الأعمى. فشق الله على يد يشوع نهر الأردن، وعبر جميع الشعب على أرضه بأرجلهم (يشوع 3: 16). وأوقف يشوع الشمس في صلاته، أثناء حربه مع خمسة ملوك أموريين: ملك أورشليم، حبرون، يرموت، لخيش وعجلون (يشوع 10: 12- 14)؛ لذلك حتى جميع أعداء شعب إسرائيل أدركوا هذا أيضًا!! وبعد موت يشوع أيضًا، استمر الله في قيادة الشعب واختيار القادة. فهو الذي اختار عثنيئيل قاضيًا (قضاة 3: 9)؛ وهو الذي اختار إهود (قضاة 3: 15)؛ ودبورة (قضاة 4: 4)؛ وجدعون (6: 12)...إلخ.
إذا نرى من النقاط السابقة، أن الله أظهر بمعجزاته أنه على رأس العملية لدخول شعب إسرائيل لأرض الموعد، بشكل تام. أيضًا لا نقدر أن نُسري على الله، نفس القوانين التي تسري على خلقه، أي البشر! فهو معطي الحياة، وهو الوحيد الذي له الحق في أخذها، بخلاف البشر. لكن يجب أن تكون طرق الله عادلة، غير متحيزة، لا يتعامل مع البشر بمعايير مزدوجة. وهذا تمامًا ما نراه في نصوص الوحي؛ الله لم يعامل شعبه اليهودي بتساهل، وشعوب أرض كنعان "بوحشية" (والعياذ الله)؛ بل عامل الجميع بنفس المعايير في الرحمة والحق. فعندما أخطًأ شعب إسرائيل، الله أباد ثلثه بالوبأ والجوع، وثلثه سقط بالسيف، والثلث الثالث شتته بين الأمم (حزقيال 5: 12). فنرى بعد يشوع مباشرة، كيف أنه عندما لم يطع الشعب الرب فيما أمره به؛ أبطل الله عملية طرد الشعوب في أرض كنعان؛ وأعلن أنهم سيكونون في الأرض إلى الأبد، لذلك كانوا ولا يزالوا في الأراضي المقدسة إلى يومنا هذا. وهذا سنتكلم عنه في المقال القادم بنعمة الرب.