في المقال السابق توقفنا عند سؤال لينوكس لدوكنز، لماذا تستخدم كلمات مثل عمياء وتلقائيّة؟ ساعتي هذهِ عمياء وتلقائية... ولكن تمّ تصميمها! والإنطباع الذي أشعر بهِ وهو ما يتضح لنا، هو أنّ عمليّة التطوّر راقيّة جدًا. حتى أنّها بذاتها تُقدّم دليلاً على وجود عقل منطقي ورائها.
لكن هل فهمتكَ صوابا حين قلتَ أنّكَ تُنكر هذا لأنّكَ لديكَ سبب مبدأي في رفضهِ؟ وهو أنّ كل شيء من وجهة نظركَ يجب أن ينتقل من الأبسط الى الأعقد؟ ولهذا فحجتكَ الاساسيّة في كتاب (وهم الإله) لو فهمتها بشكلٍ صحيح /هي أنّ الإله بالتعريف أكثرُ تعقيدا ممّا يُحاول تفسيرهِ، وبالتالي لابّد أن يكون لهُ تفسير؟
يُجيب دوكنز: نعم هذهِ نقطة رئيسة أردتُ وضعها، لكن دعني أعود لما كُنتَ تقولهُ عن الإرشاد.
حين ترمي حجرًا ويقع على الأرض, أنتَ كعالم سوف تفسّر هذا بالجاذبيّة. أنتَ لن تحلم بالقول أنّ هناك إله يدفعهُ للأسفل هذا بالضبط ما تقولهُ عن التطوّر. لأنّنا نفهم التطوّر بنفس مستوى فهمنا للجاذبيّة، بل ربّما بمستوى أفضل!
يُجيب لينوكس:
لا... وهذهِ نقطة مهمة جدًا
لأنّي لاحظتُ في الكثير من كتاباتكَ أنّك ترفض الإله في التفسيرات العلميّة. حين إكتشف نيوتن قانون الجاذبيّة لم يقل/ رائع الآن لا أحتاج الى الله!
الإله هو تفسير للظواهر على مستوى الوكالة، وليس على مستوى الآليّة
فيمكننا دراسة آليات البيولوجيا، وكلّما كانت متطوّرة أكثر، كلّما كانت تُشير الى وكيل Agent
لايُمكنكَ إستبعاد وجود وكيل من خلال الإشارة الى وجود آليّة Mechanism
وأنا لا أستوعب كيف يُمكنكَ أن تصل الى أنّ الله والعلم هما تفسيران متناقضان؟
يقاطعهُ ريتشارد دوكنز قائلاً:
أعتقد أنّكَ لاتحتاج لوكيل إذا كان الوكيل غير ضروري في التفسير!
حينَ تُراقب حدثا ما، قد يكون هناك وكيل.
لو كنتَ تٌراقب سيارة تمضي وتتجنب الحواجز، وتنعطف يمينا وشمالاً
ستقول هناك وكيل يقود السيارة، وهذا صحيح لأنّهُ هناك السائق.
لكن لو كنتَ لاتحتاج وكيلاً لتفسير ما يحدث، ونحنُ لانحتاج وكيل في الأحياء ولا في الجاذبيّة.
بالطبع أنا أقبل أنّ نيوتن كان دينيا، فقد عاش في القرن السابع عشر، والجميع كان كذلك.
لكنّكَ لا تحتاج وكيل! لأنّ الوكيل غير ضروري في التفسير هنا. هذا سيكون إعطاء مكسب مجاني، لشيء لا تحتاجهُ!
يُجيب جون لينوكس:
أجد هذا غير مُقنع, لأنّكَ حتى لو كنتَ تقبل النموذج التطوّري، فإنّ حدوثهِ يعتمد على وجود كون مضبوط.
هذا الكون المضبوط في ثوابتهِ يطرح بحّد ذاتهِ أسئلة كُبرى عن منشأ الكون. التطوّر لا يتناول مَنشأ الكون, ولا منشأ الحياة.
يقاطعهُ دوكنز: صحيح .. لكن هذهِ نقاط منفصلة.
لينوكس: هذهِ نقاط منفصلة ومهمة أيضا.
دوكنز: نعم بالتأكيد.
طالما أننّا نتناول التطوّر Evolution سأتحدّث عنهُ إذا أردتَ أن نمضي للنقاش في هذهِ الأشياء فيسعدني ذلك.
لينوكس: نعم يُسعدني أن نناقشها, لكن فكرة أنّ الاشياء في المبدأ يجب أن تنتقل من البساطة الى التعقيد (يبدو لي هذهِ عقيدتك وإيمانكَ)
يستفسر منهُ دوكنز: ماهي عقيدتي؟ الأشياء يجب أن تنتقل من البساطة الى التعقيد؟
لينوكس: نعم
دوكنز: لا... إن كانت الأشياء تنتقل من البساطة الى التعقيد نحتاج تفسيرا، الإصطفاء الطبيعي هو تفسير ذلك في البيولوجيا.
لينوكس: حسنا فلنرجع الى مستوى أصل الكون وأصل الحياة.
الحياة مثلما نعرف جميعا لديها قاعدة بيانات رقميّة، ولديها لغة خاصة بها. الآن: الشيء الوحيد الذي نعرف قدرتهِ على إنتاج اللغة هو العقل.
مع ذلك أنتَ ترفض هذا، ترفضهُ بالضرورة، بإعتباركَ لا ربوبي.
دوكنز يتصنع إبتسامة، نعم أرفضه!
حين تقول الشيء الوحيد الذي نعرف قدرتهِ على إنتاج اللغة هو العقل.
نحنُ نعرف أنّ ما يُنتج اللغة البشريّة هو العقل. لكن الحامض النووي D.N.A، ليس لغة بشريّة.
يقاطعهُ لينوكس: لكنّها لغة مُعقدة؟
دوكنز/ نعم مُعقدة، لكن هذا لايستلزم نشأتها عن عقل.
لينوكس: لكننّا لانعرف أيّ طريقة ممكنة لإيجادها، لأنّهُ يبدو لي من وجهة نظر رياضيّة ويبدو لي أنّكَ ذكرتَ ذلك في سياق آخر وقلت
(خردة داخلة وخردة خارجة)
هنا لدينا مُعالج معلومات هائل إسمهُ الخليّة. هل يُمكنني أن اُصدّق أنّ آليّة مُعالجة المعلومات هذهِ ظهرت من خلال قوانين الطبيعة والعمليّات العشوائية بدون عقل؟
دوكنز: نعم... نعم
لينوكس: أنا أجد هذا مُستحيل التصديق كعالم رياضيّات.
دوكنز: أعلم ذلك. هذهِ تُسمى/ الإحتجاج بالشكوكيّة الشخصيّة!
لينوكس: لكن يُمكنني أن أقلب هذا وأقول أنّكَ تحتج بالسذاجة الشخصيّة!
فأنتَ تقول أنّ العقلانيّة تأتي من اللاعقلانيّة. وأنّ العقل يأتي من المادة.
بالنسبة لي تفسير الكتاب المُقدّس هو في البدء كانت الكلمة وكان اللوغوس وهذا منطقي تماما. ويجعل قدرتنا على إستخدام العلم منطقيّة.
دوكنز: لكنّكَ لم تشرح من أين جاء اللوغوس أساسا؟
لينوكس: بالطبع لا، لأنّ اللوغوس لم يأتي من أيّ مكان.
دوكنز: إذن كيف تعتبر هذا جوابا؟
لينوكس: لأنّ الفكرة أن تسأل مِنْ أينَ جاءَ اللوغوس تعني أنّكَ تسأل عن إله مخلوق.
بينما الصفة الأساسيّة للخالق في الكتاب المُقدّس أنّهُ ليس مخلوق بل هو أزلي!
وأنا أسأل نفسي لإستدلال الجواب الأفضل/ ما الذي يُعتبر منطقياً أكثر؟
أنّ هناك لوغوس أزلي، وأنّ الكون وقوانينهِ والقدرة على التفسير الرياضي وخلافهِ وإنّ هذهِ الأشياء مشتقة، بما فيها العقل البشري من اللوغوس.
هذا منطقي أكثر بكثير بالنسبة لي كعالم من الفكرة المُعاكسة.
حينَ لايكون هناك تفسير لوجود الكون، هل تعتبر الكون حقيقة بسيطة؟
دوكنز: الكون حقيقة بسيطة وأسهل للقبول من فكرة خالق واعي.
لينوكس: إذا مَنْ صنعَ الكون؟
دوكنز: أنتَ الذي تُصّر على هذا السؤال.
لينوكس: لا .. لا، أنتَ سألتني مَنْ صنعَ الخالق؟
الكون صنعكَ يا ريتشارد، فمن صنع الكون؟
دوكنز: الإله هو كيان مُعقّد ويتطلّب تفسيرا أكثر تطوّرا وصعوبة من تفسير الكون، الذي يُعتبر وفق الفيزياء الحديثة كيانا أبسط بكثير.
إنّها بداية بسيطة. بداية بسيطة لكن ليست هامشيّة.
لكن تفسيرها أبسط بكثير بالتأكيد من تفسير شيء مُعقّد كإلهٍ خالق.
لينوكس: نعم لا يُمكنكَ تفسير وجود الإله. لكنّي أعتقد أنّك لم تفهم سؤالي.
أنا أضع مُقارنة، أنتَ تقول، ولا تجعلني أتقوّل عليك, فهذا من غير العدل. لكن يبدو لي أنّكَ تعني,،أنّهُ من السُخف أن أؤمن بإله صنعَ الكون، لأنّي لا أعرف مَنْ صنعَ الله!
كلّ ما أفعلهُ هو أنّي اقلب السؤال عليك، لاقول لكَ:
أنتَ تعترف أنّ الكون صنعكَ لأنّهُ لايوجد غيره، فمن صنعَ الكون إذًا؟
دوكنز: أنا افهمكَ تماما جون.
نحنُ الإثنان نواجه السؤال ذاتهِ، وهو كيف بدأ الكون!
لينوكس: نعم
دوكنز: أنا أقول أنّهُ من السهل بكثير أن نبدأ بشيء بسيط بدلاً أن نبدأ بشيء مُعقّد. وهذا ما يعنيهِ التعقيد.
لينوكس: ولكنّي لا أظنُ ذلك.
فلو أمسكتَ بكتاب إسمهُ وهم الإله (هذا كتاب دوكنز الأشهر), وهو كتاب متطوّر وفيهِ الكثير من الكلمات.
في الواقع ومنذُ نظرتي للصفحة الأولى, ودون الحاجة لتجاوزها، أستنتج أنّ الكتاب يأتي من كائن أكثرُ تعقيدا من الكتاب نفسهِ, وهو أنت!
دوكنز: نعم، بالتأكيد الأشياء المُعقّدة موجودة, والأدمغة موجودة.
لينوكس: إذًا، لماذا لا ننظُر للكون وهو يشتمل على دوكنز ولينوكس؟
دوكنز: سأخبركَ لماذا، سأخبرك.
لأنّ دماغي الذي أنتجَ الكتاب لهُ تفسير بدورهِ. هذا التفسير هو التطوّر!
وهكذا نعود شيئًا فشيئًا، الى بداية الكون.
هذا يُعطي تفسيرًا للأدمغة المُركبّة التي تنتج كُتبًا ومتاحف وسيارات وحواسيب. بالتأكيد توجد أشياء مُركبّة تصنع أشياء مُركبّة اُخرى.
ولكن العلم يعرف كيف تنشأ الأدمغة المُركبّة من بدايات بسيطة.
لينوكس، يقاطع: لا أعتقد ذلك أبدًا.
على مستوى مَنشأ (نشوء) الحياة، فمن يقرأ الأدبيّات العلمية بما فيها المُعاصرة، فإنّ كلمة مُعجزة موجودة الى حدّ قد لا يُعجبك!
ذلك بأنّ الإنتقال من صفات التنظيم الذاتي للجزيئات الصغيرة في الزمن البدائي، الى صفات التنظيم الذاتي الهائلة في الجزيئات الكبيرة. لايوجد أيّ طريقة لهذا.
دوكنز يُقاطع: أنتَ تفترض أنّهُ لا يوجد، ولكن هناك الكثير من العمل اللازم. العلم لا يعرف كلّ شيء بعد. ولا تزال هناك ثغرات.
لينوكس: نعم أنا لا أستبعد وجود تفسير مادي لها، ولكن يبدو لي أنّ الوصف الأساس للغة الحامض النووي العتيقة يُشير أكثر بكثير الى وجود لوغوس إلهي بدأها. أكثر ممّا يمكن تفسيره بالكامل بالظواهر الطبيعيّة المحضة. لأنّي أوّد العودة للنقطة السابقة، بإنّ هذا الإختزال المُتطرّف، يستبعد عنّا العقلانيّة التي نُجري من خلالها هذا الحوار.
أنا لا أشعر بأنّي مُغرّر للإيمان بأنّ الكون مصنوع.
بل أؤمن حقاً انّهُ مصنوع. وهذا لايقف في طريق العلم.
أنا أخشى أحيانا، أنّ الإنقسام الذي تدعيهِ/ إمّا العِلم أو الله؟
قد يُبعد بعض الناس عن العِلم لأنّهم سيختارون... الله ! ممّا سيكون مؤسفًا.
دوكنز: حسنا أنتَ تقفز من موضوع لآخر.
لينوكس: نعم
دوكنز: يُمكننا الحديث عن أصل الحياة أو فكرة المُعجزات أو فكرة أنّ إسلوبي في العلم يُنفّر الناس.
حسنا فلنبدأ من الأخير إذًا. عندما تشاء تقوم بإقحام السحر من أجلِ معجزات الكتاب المقدّس. وتُقحم السحر في مَنشأ الحياة.
أنا لا أستطيع تفسير مَنشأ الحياة حاليًا. أعني، لا أحد يستطيع.
يقاطع لينوكس: لكن هل تؤمن أنّ تفسيرها سيكون طبيعيا؟
دوكنز: نعم، وأعتقد أنّهُ من الجُبن والإنهزاميّة أن نفترض أنّهُ لمجرّد جهلنا بشيءٍ ما، فهو حدثَ بالسحر.
لينوكس: أنا أتفق معكَ، أنا ضدّ فكرة إله الثغرات The God of the gaps
دوكنز يقاطع: لكن هذا ما تفترضهُ أنتَ. أنّهُ إله الثغرات!
أنتَ تُشير الى مَنشأ الحياة ومَنشأ الحامض النووي، وتقول ......
حسنا داروين فسّر كلّ شيء بعد مَنشأ الحياة، ولكنّهُ لم يُفسّر منشأ الحياة، وهذا إله الثغرات.
لينوكس: أعتقد هناك نوعين من الثغرات، هناك ثغرات سيّئة يغلقها العِلم. لكن أليس من الممكن أنّ العلم يفتح ثغرات جديدة؟
ما أقصدهُ أنّ إفتراضكَ كما أفهمهُ، سيوجد تفسير شامل إختزالي طبيعي لكل شيء بمصطلحات علميّة.
أنا لا أعتقد هذا. فإن كان هناك إله وهو الذي خلّقَ هذا الكون، وإن كان كما أؤمن به, إلهاً شخصيا، فأتوقع أن تحصل بعض الأشياء.
أحدها أننّا سنجد دلائل في الكون على وجود الإله، وأعتقد أنّها موجودة في قابليّة الكون للتفسير الرياضي. وفي التوليف الدقيق لقوانين الكون وفي التطوّر البديع فيه. أتوّقع أن أجد يدَ الله هناك.
سأتوقع أيضاً وجود حالات يتحدث فيها الإله بطريقة خاصة، وبالتالي أعتقد أنّنا حينما نحاول تفسير تلك الحالات بوسائل علميّة إختزاليّة بحته، تزداد الصعوبة، بدلاً من البساطة. ولا أتوّقع أنّ تلك الحالات كثيرة وأظنّ أنّ مَنشأ الحياة من ضمنها.
وبالتأكيد إذا تناولنا التاريخ القريب وأنتَ ذكرتَ المعجزات التي أعتبرها جوهرية، وأنتَ تُسميها تافهه.
أنا أعتبرها مهمة جدا لأنّها تتناول شيئاً يهّم كلّ إنسان/ سؤال الموت!
إن كان يسوع فعلاً بُعِثَ من الموت تأريخيًا فهذا يُشكّل فرقًا عظيما في رؤيانا للعالم.
فعلى عكس إعتبارها تافهه إن كان هذا هو الإله الذي يُخاطبنا، فسآخذهُ بجديّة مُتناهيّة. فلماذا تعتبرها تافهه؟