لقد أثارت سلسلة مقالاتي التي تحت عنوان "وقفة بين الكتاب المقدَّس وبين غيره" سلسلة من انتقادات الإخوة المسلمين؛ مشحونة بسوء الفهم تارة ومفترية على الكتاب المقدَّس بتهمة التحريف تارة أخرى مع التشكيك في صحّة مقدَّساتنا. وهدف السلسلة مكرَّس لإثبات التالي، بمجهود فردي ورؤية شخصية وبَحث دقيق: إنّ "الروح الأمين" الذي نزل بالقرآن هو غير الروح القدس الذي أوحى بتدوين التوراة والإنجيل. فلم أكتب في مقالاتي مثالًا "إنّ القرآن غير موحًى به" إنما قلت بوضوح: لديّ أدلّة على اختلاف مصدر الوحي بالقرآن عن مصدر الوحي بالكتاب المقدَّس. وسأكتفي هنا بذكر مثالَين جديدَين:
الأوّل: سجود الملائكة لآدم يتعارض مع السجود لله وحده
فقد نَسَبَ مؤلِّف القرآن إلى الله أمرًا بسُجُودَ الملائكة لآدم (وَإِذْ قُلْنا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ)- البقرة:34 والكهف:50 لكنّ السجود، سواء لآدم ولغيره، يعتبر شِركًا بالله حسب شريعة الكتاب المقدَّس، بعهديه الجديد والقديم. لأنّ الربّ إلهنا إله غيور. ففي العهد الجديد قول للسيد المسيح: {مَكتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعبُد}+متّى 4: 10 ومعنى {مكتوب} أي معروف منذ العهد القديم، فلا سجود جائز للملائكة ولا للبشر وسائر المخلوقات ولا للحجر. وإليك الآيات التالية من وصايا التوراة: {أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخرَى أمامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنحُوتًا، ولاَ صُورَةً مَا... لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ...}+ الخروج 20: 2-5 المؤكَّد عليها في التثنية 5: 6-9
الثاني: ما كان إسماعيل بن إبراهيم مِن أنبياء الكتاب المقدَّس
فقد نَسَبَ مؤلِّفُ القرآن إلى الله وحيًا بأنّ إسماعيل كان نبيًّا، وأنّ الله أوحى إليه:
(واذكُرْ في الكتاب إِسمَاعِيلَ إنه كان صادقَ الوعد وكان رَسُولًا نَبِيًّا)- سورة مريم:54
(وأوحينا إلى إبراهيم وإِسمَاعِيلَ وإسحاق...)- النساء:163
أمّا التوراة فلم يُذكَر فيها أنّ الله كَلَّم إسماعيل، كما كلَّم إبراهيم الخليل أباه وموسى النبي، ولا أوحى الله إليه بشيء، ولم يُذكر فيها تنبّؤ إسماعيل بشيء، ولا تكليفه برسالة ما من الله. فما اعتُبِرَ إِسمَاعِيلُ في التوراة نبيًّا، بل المذكور أنْ ينتهي به المطاف إلى أن يكون وحشيًّا! وإليك المدوَّن في التوراة حَرفيًّا: {إِنَّهُ يَكُونُ إِنسَانًا وَحشِيًّا}+ تكوين 16: 12 وقد تمنّى إبراهيم أن يعيش ابنه إسماعيل أمام الله، لكن الله قال له: {بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ}+تكوين 17: 19 فشتّان ما بين الرسول أو النبيّ وبين الوحشي.
ـــ ـــ ـــ
عاقبة اتهام الكتاب المقدَّس بالتحريف
توجد حقيقة غائبة عن أذهان المسلمين الذين افتروا على الكتاب المقدَّس بتهمة التحريف ولا سيّما التوراة والإنجيل، وغائبة عن الذين نقلوا عن المفترين بدون تفكير، مفضِّلين النقل على العقل، طالما صبّت التهمة ظاهريًّا في مصلحة الإسلام، وطالما افتقروا إلى منطق سليم للدفاع عنه. والحقيقة أنّ هذه التهمة تضرّ بالمفترين مضرّة ما بعدها مضرّة، لن تنفعهم بشيء ولن يشفع لهم أحد يوم القيامة، لإنّ في هذه التهمة إساءة إلى الله، الحافظ كلامه والساهر عليه، قبل الإساءة إلى التوراة أو الإنجيل. والتهمة تدلّ على أنّ الله عجز عن حفظ كلامه- حاشا- وهو إله قدير. وتفصيل حفظ الله كلامه مدوَّن في مقالتي المنشورة على موقع لينغا: وقفة ثالثة بين الكتابَين المقدَّسَين.
فما جزاء هذه التهمة يوم القيامة؟ والجواب: النار الأبدية. والدليل: كتبتُ أعلى أنّ تدوين الكتاب المقدَّس قد تمَّ بوحي الروح القدس أي بإرشاده. والروح القدس هو روح الله. والتجديف على روح الله لن يغفره الله! إذ قال السيد المسيح بصراحة ووضوح: {كُلُّ خَطيئةٍ وتَجْديفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وأمَّا التَّجديفُ على الرُّوحِ القُدُسِ فلَنْ يُغفرَ لهُمْ. ومَنْ قالَ كلِمَةً على اَبنِ الإنسانِ يُغفَرُ لَه، وأمَّا مَنْ قالَ على الرُّوحِ القُدُسِ، فلن يُغفَرَ لَه، لا في هذِهِ الدُّنيا ولا في الآخِرَة}+ متّى 12: 31-32
وقد ضرب جناب القمّص زكريا بطرس مثالًا لتقريب الصورة قائلًا ما معناه: [إن المريض الذي لم يستطع تجرّع وصفة دواء من الطبيب (أو الحكيم) لا يموت لأنّ في إمكان الطبيب أن يصف له دواء آخر ليتجرّعه. لكنّ المريض يموت متى رفض جميع الوصفات ممتنعًا من الذهاب إلى الطبيب (الروح القدس) ولا شافيَ سواه ولا منقِذ] انتهى. أمّا معنى التجديف في المعاجم: [كُفرٌ بنعمة الله وكلامٌ عليه بالشتم. جَدَفَ بنِعمَةِ الله: كَفَرَ ولَمْ يَقنَعْ بها] انتهى
التوراة والإنجيل في سورة المائدة: 44-47
والجدير ذكره أنّ المفترين قد أساؤوا إلى رسول الإسلام نفسه؛ لأنّه أثنى على التوراة والإنجيل ولم يقُلْ بالتحريف، لا في قرآن ولا حديث: (إِنَّا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور يحكُمُ بها النبيّون... ومَن لم يحكمْ بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبْنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين... ومَن لم يحكُمْ بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. وقَفَّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مُصَدِّقًا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هُدًى ونور ومُصَدِّقًا لِمَا بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتّقين. وليحكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) انتهى
فهؤلاء المفترون جهلاء إذْ حكموا على الكتاب المقدَّس بالتحريف، لأنهم أوّلًا لم يقرأوا التوراة ولا أسفار الأنبياء ولا الإنجيل من الكتاب الرسمي- الكتاب المقدَّس- وشككتُ تاليًا في اطّلاعهم على القرآن وعلى تفسيره، فربّما قرأوه وما فقِهوا عنه ولا فقِهوا في دينهم. والدليل واضح من خلال رداءة اللغة العربية التي كتبوا بها افتراءاتهم، سواء بالإملاء والقواعد، لأنّ المفترض بالمسلمين ولا سيَّما العرب منهم، مِن قُرّاء القرآن ومن المدافعين عن سلامته، إتقان اللغة العربية- لغتهم الأمّ ولغة القرآن- وتاليًا قد شهد عليهم رسولهم منذ أربعة عشر قرنًا بأنهم كافرون وظالمون وفاسقون. فلم يجادلني بإتقان اللغة واعتماد التفسير المرجعي أزيد من 1% من النقّاد بدون خجل من ضعف مستواهم لغويًّا وثقافيًّا ودينيًّا.
والسؤال تاليًا؛ إذا كان رسول الإسلام مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (مِن المائدة:48) فمتى حصل التحريف المزعوم وفي أيّة دولة وبأيّة لغة، ومَن الذي تجرّأ على التحريف؛ ما جنسيّته وديانته وطائفته وماذا حَرَّف، وما مصلحته؟ عِلمًا أنّ معنى قوله (مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) في تفسير الطبري: [مُصَدِّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حقّ من عند الله، أمينًا عليها، حافظًا لها. وأصل "الهيمنة" الحفظ والارتقاب] انتهى.
وبناء على ما تقدَّم فإنّ مصير المفترين في الآخِرة إِلَى بُحَيرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بالكِبرِيت، إلّا إذا راجعوا أنفسهم نادمين على افتراءاتهم وتائبين. ها أني قد نبَّهت فما عاد في إمكان أحدهم نكران هذا التنبيه أمام الله الديّان العادل يوم الحساب. فإذا استمرّوا مواظبين على غَيّهم وبَغْيهم فلا شفيعَ لهم يوم الحساب ولا مَفرَّ من النار الأبدية.
ـــ ـــ ـــ
لعبة الإسقاط
أمّا إذا فعلوا فِعلتهم النكراء لإسقاط قضية تحريف القرآن، المنتشرة على الانترنت، على الكتاب المقدَّس، فإنّي غالبًا ما ترفَّعت عن الرَّدِّ بالمثل، مُركِّزًا على ثلاث نقاط؛ الأولى: تقديم أقوال السيد المسيح وأفعاله إلى القرّاء. والثانية: التأكيد على أنّ مصدر القرآن غير مصدر الكتاب المقدَّس. والثالثة: اختلاف منهج القرآن عن منهج الكتاب المقدَّس. فمن حقِّي أن أُبدي رأيي، بعد دراسة وتدقيق، باحترام وبالحجّة وبالدليل.
فلم أهتمّ بمسائل تحريف القرآن، لأني في قرارة نفسي تمنَّيت لو أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين اليوم صحيح وغير محرَّف. لماذا؟ لأنّ كوارث قرآن محرَّف تبدو لي أشدّ وقعًا من كوارث قرآن غير محرَّف. أي يكفي العالم ما أنتج هذا- غير المحرَّف- من تخلّف في الدول المؤسلَمَة وفقر وفساد، وتفريخ خلايا إرهابية تكفيرية من جنسيّات مختلفة، النشيطة منها في بقاع شتّى والنائمة، والقاسم المشترك بينها الإسلام. تكفيه كوارث الغزو والاحتلال والسبي والنهب والإرهاب وتخريب الحضارات من قرآن غير محرَّف. فكيف تكون أشكال الكوارث وأحجامها لو كان القرآن محرَّفًا؟ الله أعلم والله يستر.
ـــ ـــ ـــ
رسالة إلى داعـش وأنصارها
لقد طبّقتم فرائض الإسلام وحدوده حَرفيًّا. خذوا منّي أنّ القرآن غير محرَّف، لكني أتمنّى عليكم أن تهتدوا إلى طُرُق الحياة بالحقّ والعدل بأنفسكم، تاركين الدين لله والوطن للجميع، لأنّ الله أعطاكم عقولًا لتفكّروا بها فتهتدوا، ولأنّ الوطن يسع الجميع. أعتقد أنّ الله لن يهدي أحدًا ولن يضلّ أحدًا، إنّما أتاح للإنسان حريّة التفكير وقرار الاختيار. وقد دعوته في الوقت نفسه أن يبعد شرَّكم عن الناس الطَّيّبين والمساكين والمسالمين، أيًّا كانت دياناتهم وأعراقهم، طالما بقيتم على الشَّرّ، فإنكم أشرار في أنظار العالم المتمدن والمتقدم.
أمّا المسيحيّون فليسوا أعداءكم، إنما التزموا بوصيّة محبّة الأعداء والإحسان إلى مُبغِضِيهم والـصلاة لأجْل المُسيئين إليهم (متّى 5: 44) والتزموا بوصيّة الإنجيل القائلة: {لا تَنتَقِموا لأنفُسِكُم أيُّها الأحِبّاءُ، بَلْ دَعُوا هذا لِغَضَبِ اللهِ. فالكِتابُ يَقولُ: ليَ الانتِقامُ، يَقولُ الرَّبُّ، وأنا الّذي يُجازي}+رومة 12: 19 لكنكم أنتم الذين ناصبتم العداء كلّ من اختلفتم عنهم ومعهم، سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم، مِمَّن كَفَّرتُمْ فقتلتُمْ، استنادًا إلى نصوص قرآنية اعتبرتموها ناسخة وإلى أحاديث وفتاوى. حتّى قسَّمتم العالم ما بين مسلِمِين وكافرين ومُشْرِكِين، وهذه (قِسمَةٌ ضِيزى)- النجم:22 بلْ حَرامٌ عليكم! لأنّ الديّانَ العادلَ اللهُ، لا أنتم ولا غيركم، فاتركوا شؤون الخَلق للخالق. عِلمًا أنّ مِن مكارم الخالق منذ العهد القديم:
إِذا رَجَعَ الشِّرِّيرُ عَنْ شَرِّهِ الَّذِي فَعَلَ، وَعَمِلَ حَقًّا وعَدْلًا، فهُوَ يُحْيِي نَفْسَه+ حزقيال 18: 27
قُلْ لهُمْ: حَيٌّ أَنا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بمَوْتِ الشِّرِّيرِ، بَلْ بأَنْ يَرْجعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحيَا. اِرْجِعُوا، ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الرَّدِيئة...+حزقيال 33: 11
واعلموا أيضًا من المزامير والأمثال:
كَثِيرَةٌ هِيَ نَكَبَاتُ الشِّرِّيرِ، أَمَّا الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الرَّبِّ فالرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِه+المزامير 32: 10
بِرّ الْكَامِلِ يُقَوِّمُ طَرِيقَهُ، أَمَّا الشِّرِّيرُ فَيَسْقُطُ بِشَرِّهِ+ الأمثال 11: 5
وإليكم أخيرًا قول السيد المسيح ممّا في العهد الجديد: {ما يخرُجُ مِنَ الإنسانِ هوَ الّذي يُنجِّسُهُ، لأنَّ مِنَ الدّاخِلِ، مِنْ قُلوبِ النّاسِ، تَخرُجُ الأفكارُ الشِّرِّيرةُ: الفِسقُ والسَّرِقةُ والقَتلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والغِشُّ والفُجورُ والحَسَدُ والنَّميمَةُ والكِبرياءُ والجَهلُ. هذِهِ المفاسِدُ كُلُّها تَخرُجُ مِنْ داخلِ الإنسانِ فَتُنَجِّسُهُ}+مرقس 7: 20-23